لماذا ترفض بعض التيارات الديمقراطية؟ قراءة في جذور العداء والخوف

رغم أن الديمقراطية تُقدَّم عالميًا كنظام يكفل التعددية السياسية، وحرية الرأي، والمشاركة المتساوية في صنع القرار، إلا أن العديد من التيارات الأيديولوجية والفكرية في المنطقة العربية وسواها ما تزال لا تنظر إلى الديمقراطية باعتبارها نموذجًا إيجابيًا أو قابلًا للتطبيق. بل إن هذه القوى – التي تشمل الشوفينيين، البعثيين القدامى، الإسلاميين المتشددين، الجهاديين، والسلفيين – لا تكتفي برفض الديمقراطية، بل تعبّر عن عداء وجودي تجاهها يتجاوز مجرد الخوف إلى الكراهية والرفض العقائدي والسياسي.

الشوفينية والديمقراطية: تهديد لهيمنة قومية أحادية

تقوم الشوفينية على تمجيد قومية بعينها وإنكار حقوق القوميات الأخرى، سواء على المستوى الثقافي أو السياسي. في هذا السياق، تُعدّ الديمقراطية تهديدًا مباشرًا لمنظور الشوفينيين، لأنها تقوم على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين بصرف النظر عن خلفياتهم القومية أو اللغوية. إن الديمقراطية، بما تحمله من قيم تمثيلية وتعددية، تقوّض الأساس الذي تُبنى عليه الخطابات الشوفينية، التي غالبًا ما تبرر الإقصاء والتهميش تحت شعار “الوحدة الوطنية” أو “الهوية العليا”. ولذلك فإن رفض الديمقراطية هنا ليس ناتجًا عن قلق مؤقت، بل هو رفض أيديولوجي لنظام يهدد امتيازات وامتدادات سلطة الهوية المسيطرة.

البعثيون القدامى: قلق من زوال النموذج الشمولي

بالنسبة للبعثيين القدامى، الذين ترسخت سلطتهم عبر أنظمة الحزب الواحد، تُعتبر الديمقراطية نقيضًا جذريًا لطبيعة النظام الذي اعتادوا عليه. فمفاهيم مثل حرية الصحافة، التعددية الحزبية، والرقابة الشعبية على مؤسسات الدولة، تتعارض كليًا مع تجربة الحكم القائمة على الأمن والعسكرة وتقديس الزعيم. الديمقراطية بالنسبة لهم ليست فقط آلية سياسية بديلة، بل هي أداة لنزع الشرعية التاريخية عن نظمهم وللمطالبة بالمحاسبة، وهو ما يفسر الحذر الشديد الذي يبدونه، إن لم يكن العداء الصريح، تجاه أي دعوة للإصلاح الديمقراطي.

الإسلاميون المتشددون: الديمقراطية كخصم عقائدي

أما لدى التيارات الإسلامية المتشددة، وخصوصًا السلفيين والجهاديين، فالديمقراطية لا تُرفض لأسباب سياسية فقط، بل تُنظر إليها باعتبارها نظامًا “وضعيًا” يخالف العقيدة. هذه التيارات ترى أن “الحاكمية لله”، أي أن التشريع لا يجوز أن يكون إلا لله، تتعارض تمامًا مع جوهر الديمقراطية، حيث تُمنح السلطة للشعب لاختيار ممثليه ووضع قوانينه. بالنسبة لهذه القوى، قبول الديمقراطية يعني الاعتراف بشرعية قوانين البشر فوق الشريعة، وهو ما يجعل من الديمقراطية عدوًا دينيًا قبل أن تكون خصمًا سياسيًا. لذلك، يتعاملون معها كأداة “كفرية” يجب نبذها ومحاربتها، لا مجرّد نظام قابل للنقاش.

من الخوف إلى العداء: مشاعر تتجاوز السياسة

ما تشترك فيه هذه التيارات جميعًا هو أن موقفها من الديمقراطية ليس نابعًا فقط من تحفظات فكرية أو سياسية، بل من شعور عميق بـ التهديد الوجودي. فالديمقراطية لا تهدد فقط مواقعهم في السلطة أو نفوذهم الثقافي، بل تهزّ أسس تصوّرهم لأنفسهم وللعالم. إنها تكشف هشاشة بنى الهيمنة لديهم، وتمنح صوتًا للمهمّشين، وتدعو للمساءلة، وتفضح الفساد، وهي أمور لا تحتملها هذه القوى لأنها تقوض المشروع الذي تسعى لترسيخه.

الحاجة إلى مواجهة الرفض العقائدي للديمقراطية

لذلك، لا يمكن فهم معارضة الديمقراطية في مجتمعاتنا بمعزل عن السياقات التاريخية والأيديولوجية التي أنتجت هذه التيارات. إن تجاوز هذه المعارضة يتطلب جهدًا تربويًا وفكريًا وسياسيًا عميقًا، لا يكتفي بالدعوة إلى الانتخابات، بل يعيد بناء مفهوم المواطنة، والشرعية، والتعدد، ويطرح نموذجًا للديمقراطية متصالحًا مع واقعنا المحلي ومع قيم الحرية والعدالة والكرامة.