منحت الولايات المتحدة دمشق إعفاءً مؤقتًا من عقوبات “قانون قيصر” لمدة 180 يوماً، في خطوة تهدف إلى تشجيع الاستثمار وإعادة الإعمار في البلاد. ومع تبقي 176 يوماً فقط على انتهاء هذه المهلة، يتصدر سؤال جوهري المشهد الاقتصادي في سوريا: هل باتت البيئة الاستثمارية السورية مؤهلة لاستقطاب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية؟
الفرصة الاقتصادية: رفع العقوبات واستثمارات بالمليارات
يقدّر حجم الاستثمارات المحتملة التي قد تتدفق إلى سوريا بعد رفع العقوبات بنحو 400 مليار دولار، تتوزع بين إعادة الإعمار (250 مليار دولار)، قطاع الكهرباء (40 مليار دولار)، وتطوير قطاعات حيوية مثل النفط والغاز والسياحة والصناعة والزراعة (100 مليار دولار تقريباً).
وقد بدأت بعض المؤشرات الإيجابية بالظهور، حيث أعلنت موانئ دبي عن استثمار بقيمة 800 مليون دولار في ميناء طرطوس، بينما رصدت شركة CMA CGM الفرنسية 262 مليون دولار لتوسعة ميناء اللاذقية. كما أُبرمت مذكرة تفاهم مع شركة “فيديو” الصينية لتطوير مناطق حرة على مساحة تتجاوز مليون متر مربع.
هذه الأرقام تعكس تفاؤلًا مشروطًا، لكنه لا يخفي واقعًا صعبًا ومعقدًا يحتاج إلى تفكيك عميق.
مناخ الاستثمار: خطوات إصلاحية بطيئة في مواجهة البيروقراطية
تسعى وزارة الاقتصاد السورية إلى تعديل قانون الاستثمار وتحديث البيئة التشريعية لجعلها أكثر جاذبية وشفافية. لكن، وكما أشار عدد من المستثمرين، فإن معظم القوانين ما تزال ترزح تحت عباءة النظام السابق، وهو ما دفع الحكومة الجديدة إلى تجميد العمل بها لإعادة دراستها.
هذا التجميد، كما وصفه مستثمر أردني تحدث إلى “الحل نت”، يعني “العودة إلى الصفر”، إذ يفتقر المستثمرون لأي معطى واضح حول القوانين، تسجيل الأراضي، آلية إصدار التراخيص، وغياب الشفافية فيما يخص استقرار سعر صرف الليرة السورية، التي تتذبذب بنسبة تصل إلى 30%، مما يجعل أي حسابات للمخاطر شبه مستحيلة.
البنية التحتية والتحديات الأمنية: حواجز صلبة أمام الطموحات
لا تزال التحديات اللوجستية والأمنية قائمة بشكل كبير. فالكهرباء، النقل، والموارد البشرية يعانون من ضعف وانهيار مستمر، في ظل غياب خطط واضحة لإعادة الإعمار الفعلي. أضف إلى ذلك النزاعات الإقليمية غير المحسومة التي تشكّل عنصرًا معرقلاً لأي استقرار استثماري طويل الأمد.
وبينما دعت الحكومة رجال الأعمال السوريين في الخارج للعودة والمساهمة في التنمية، فإن غياب الضمانات الأمنية والقانونية يظل أكبر المعوقات.
تشريعات اقتصادية: الحاجة إلى نقلة نوعية قانونية ومؤسساتية
ينتظر أن يُصدر القانون الجديد للاستثمار نهاية شهر أيار/مايو، والذي يُفترض أن يتضمن إجراءات تبسيطية مثل رقمنة المعاملات، إنشاء منصة موحدة، وتقليل البيروقراطية. غير أن نجاحه سيتوقف على فاعلية تطبيقه وليس على نصوصه فقط.
الخبراء يرون أن سوريا بحاجة إلى إنشاء محكمة خاصة للاستثمار، تسوى فيها النزاعات خلال شهر واحد، وتشكيل وزارة للاستثمار تتولى رسم خارطة طريق اقتصادية واضحة، تستند إلى خطط زمنية مدروسة.
النظام المالي: في قلب الإصلاح والتحول
وفق تصريحات محافظ البنك المركزي السوري، يجري العمل على تحديث النظام المالي عبر إصلاح السياسة النقدية، مراجعة التشريعات المصرفية، وتعزيز إجراءات مكافحة غسل الأموال. ومع ذلك، فإن النظام المصرفي لا يزال متخلفًا تقنيًا ومؤسساتيًا، ويحتاج إلى إعادة بناء من جذوره، لا سيما في ظل عزلته منذ عقود عن النظام المالي العالمي.
أولوية الاستثمار ونموذج التطوير
كما يشير المستشار الاقتصادي أسامة القاضي، فإن سوريا بحاجة إلى قانون استثمار مرن، خالٍ من البيروقراطية، يشمل سياسة “النافذة الواحدة”، ويعتمد خريطة استثمارية مدروسة مبنية على أولويات الاقتصاد السوري في المرحلة القادمة.
وتقتضي المرحلة المقبلة وضع رؤية خاصة لتنمية القطاعات ذات القيمة المضافة العالية مثل التكنولوجيا والصناعات الثقيلة والطاقة المتجددة، بعيداً عن العشوائية السابقة في منح الإعفاءات الضريبية أو تشجيع قطاعات استهلاكية.
العد التنازلي بدأ.. إما انفتاح اقتصادي أو انتكاسة جديدة
إن ما تبقى من مدة الإعفاء الأميركي (176 يوماً) ليس مجرد فرصة مؤقتة، بل هو اختبار شامل لقدرة الحكومة الانتقالية السورية على إعادة هيكلة الاقتصاد، وإعادة ثقة المستثمرين المحليين والدوليين. فإما أن تنجح في ذلك وتدخل حقبة جديدة من التنمية، أو تفوّت الفرصة وتغرق مجددًا في دوامة التراجع الاقتصادي والسياسي