شهدت محافظة السويداء خلال الأيام الماضية تصعيداً أمنياً دامياً بعد اشتباكات مسلحة بين قوات النظام وعناصر محلية من الطائفة الدرزية، أعقبها تدخل عسكري قاسٍ شمل حملات اعتقال ونهب وتنكيل بأعيان وشيوخ الطائفة، في مشهد يعكس أزمة عميقة في العلاقة بين الدولة المركزية والمكونات المحلية التي طالما عانت من الإهمال والتهميش.
هذا التصعيد يفضح هشاشة الدولة السورية ومن خلال ضياع الثقة المتبادلة خلال ١٤ عاما من الصدام العسكري، وعدم قدرة الدولة السورية في الحفاظ على وحدة أراضيها عبر نموذج حكم مركزي يفرض سلطته بالقوة، دون تقديم حلول سياسية أو اجتماعية تلبي حاجات المجتمعات المحلية. ويتزامن هذا مع تدخلات خارجية، أبرزها الضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مؤسسات مركزية في دمشق لحماية الطائفة الدرزية والتدخل التركي لرسم سياسات الحكم السوري يخدم ويضمن المصالح التركية الاستراتيجية إلى جانب الدعم القوي لدول الخليج والتي باتت تخشى بشدة من التمدد الديمقراطي إلى مطارحها السياسية ، مما يعقد المشهد الأمني ويضع البلاد أمام أفق غامض بين النزاع المسلح والاستقطابات الإقليمية.
القمع في السويداء: تأكيد على عجز المركز في إدارة التنوع
أظهرت التطورات في السويداء أن النظام السوري يعتمد سياسة الأمن والقوى والتضليل الاعلامي لحفظ سلطته، مستنداً إلى أجهزة عسكرية وأمنية على أسس فصائلية تعتمد على أسس التحشيد والـ “الفزعة” غير مؤتمرة إلى حد كبير بأوامر وزارة الدفاع ، وقد خاضت مواجهات مسلحة مع السكان المحليين. عمليات الاعتقال والنهب والتعفيش التي رافقت هذه الاشتباكات ليست فقط ممارسات انتقامية، أو طائفية إلى حد بعيد، بل تعكس سياسة مركزية تحاول عبر القوة فرض الطاعة على مكونات ذات خصوصية ثقافية ودينية، رغم أن هذه المكونات تسعى إلى تحسين ظروفها الحياتية والحصول على تمثيل سياسي حقيقي.
تلك السياسة أدت إلى مزيد من التوتر وأثارت مخاوف من انفجار أكبر في مناطق مماثلة، خصوصاً في ظل تزايد مطالب المجتمعات المحلية بالاعتراف بحقوقها السياسية والإدارية، بما يتجاوز السيطرة الأمنية والعسكرية.
الحل المفقود ، إنعدامية الإعتراف الإداري والسياسي
في ظل الأزمة السورية الممتدة التي طال أمدها، سعت الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا إلى فتح آفاق جديدة للخروج من النفق السياسي المظلم عبر الحوار والتفاوض مع النظام السوري، بهدف التوصل إلى اتفاق يُنهي حالة الصدام المستمرة. ركزت الإدارة الذاتية في مباحثاتها على ضرورة اعتماد شكل حكم لامركزي يضمن مشاركة واسعة لمكونات المجتمع المحلي ويعزز الاستقرار السياسي والاجتماعي في المناطق التي تديرها، ما يُعدّ خطوة ضرورية لتجاوز نموذج الدولة المركزية الصارم الذي أثبت فشله في احتواء التنوع السوري.
لكن تلك المحاولات اصطدمت بعناد الدولة السورية، التي تتمسك بصيغة حكم مركزية تستمد قوتها من الأيديولوجيا التي رسمها حزب البعث العربي الاشتراكي، والتي ترفض بشكل مطلق تقاسم السلطة أو السماح بنموذج لامركزي. إلى جانب ذلك، تلعب الأيديولوجيات الدينية دورًا في تعميق تمسك النظام بهذه الصيغة، بينما تفرض الوصاية والضغوط الإقليمية، خاصة من تركيا ودول الخليج العربي، ومن بينها السعودية، قيودًا إضافية على إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية تلبي تطلعات الإدارة الذاتية وشعوب شمال وشرق سوريا.
في هذا المشهد المعقد، تستمر الإدارة الذاتية في تأكيد حقها في المشاركة السياسية الفاعلة، وتدعو إلى حوار سوري شامل يفضي إلى صيغة حكم تضمن الوحدة الوطنية دون إلغاء التنوع والحقوق المحلية، مؤمنة بأن الحل السياسي هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار والسلام في سوريا.
تأسست الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، في أعقاب معارك تحرير المناطق من سيطرة تنظيم “داعش” وفي ظل غياب سلطة مركزية فعالة. تستند الإدارة إلى مشروع فكري سياسي يدمج بين الديمقراطية التشاركية، اللامركزية السياسية، واحترام التنوع الإثني والديني، مع تأكيد دور النساء في صنع القرار.
يعكس هذا النموذج محاولة ملموسة لتجاوز نموذج الدولة المركزية الذي أثبت فشله في إدارة التعددية السورية. تقوم الإدارة الذاتية على مؤسسات مدنية ، تمثل مختلف مكونات المجتمع، وتمنح صلاحيات في مجالات التعليم، الصحة، الأمن، والتنمية الاقتصادية.
آليات الحكم والمؤسسات
تتكون الإدارة الذاتية من مجالس محلية تمارس السلطات التشريعية والتنفيذية في مناطقها، مع وجود نظام قانوني محلي يتسم بالتعددية والتشاركية، ويعتمد على مبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. ويشكل التعاون بين المكونات الإثنية والدينية في هذه الإدارة عنصر استقرار فريد في منطقة معقدة.
النساء يلعبن دوراً محورياً في مؤسسات الإدارة الذاتية، حيث يتم تطبيق نظام الكوتا النسائية لضمان المشاركة الفعالة والمساواة، مما يخلق نموذجاً متقدماً مقارنة بالمجتمعات المحيطة.
التحديات والصراعات السياسية
رغم النجاحات الأمنية والخدمية النسبية، تواجه الإدارة الذاتية رفضاً من النظام السوري الذي يراها تهديداً لوحدته، ورفضاً من تركيا التي تصنف قوات سورية الديمقراطية وقوات حماية الشعب كحركة “انفصالية” تهدد أمنها القومي. هذه الضغوط تضع الإدارة الذاتية في موقف دفاعي دائم، لكنها مع ذلك تواصل السعي لفرض وجودها السياسي كفاعل أساسي في الحل السوري المستقبلي.
اللامركزية كخيار سياسي في أعقاب النزاعات:
تُعد فكرة الانتقال من حكم مركزي صارم إلى نظام حكم لامركزي أحد أبرز الخيارات السياسية التي تلجأ إليها الدول التي مرت بصراعات عميقة، سواء كانت حروباً أهلية أو انقلابات عسكرية. سوريا، التي تعيش منذ أكثر من عقد أزمة مركبة ذات أبعاد إثنية وطائفية وجغرافية، تواجه تحدياً مشابهاً في كيفية إعادة بناء الدولة بطريقة تضمن الاستقرار، العدالة، والتمثيل السياسي المتوازن. في هذا السياق، يمكن النظر إلى تجارب دولية ناجحة نسبياً على هذا المسار، لتكون مصدر إلهام أو جزءاً من نموذج متكامل للحل السوري.
1. العراق بعد 2003: فيدرالية كاستجابة للصراع الطائفي والمناطقي
بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، واجه العراق انفجاراً في الصراعات الطائفية والمناطقية التي كادت تفضي إلى تفكك الدولة. جاء النظام الفيدرالي ليشكل محاولة لإدارة هذا التنوع من خلال منح أقاليم مثل كردستان حكمًا ذاتيًا واسعًا، وفسح المجال لبقية المحافظات في التمكين الإداري. رغم أن العراق ما زال يواجه تحديات في توحيد مؤسساته، إلا أن هذا النموذج يمثل تجربة إقليمية ناجحة نسبيًا في توزيع السلطة السياسية والاقتصادية بما يتناسب مع التنوع الداخلي.
2. البوسنة والهرسك: اتفاق دايتون ونموذج “الدولة المركبة”
خاضت البوسنة والهرسك حرباً أهلية دامية بين مكوناتها الإثنية، انتهت باتفاق دايتون عام 1995 الذي وضع حداً للنزاع عبر إنشاء بنية دولة مركبة تقوم على مشاركة السلطة بين الصرب والبوشناق والكروات. هذا النموذج أعاد صياغة النظام السياسي ليضمن لكل مكون صلاحيات واسعة على المستوى الإقليمي، مما ساهم في حفظ الاستقرار النسبي وتفادي الانفجار الجديد. ورغم تعقيدات تطبيق هذا النظام، فإنه يقدم نموذجاً عملياً لكيفية احتواء التنوع العرقي والسياسي ضمن إطار فيدرالي.
3. نيبال: التحول من ملكية مركزية إلى جمهورية فيدرالية
شهدت نيبال صراعاً دامياً بين الملكية وقوات التمرد الماويين، انتهى بتأسيس جمهورية فيدرالية عام 2008، تتميز بتوزيع أوسع للسلطات المحلية وتمثيل أكبر لمختلف القوميات والإثنيات. هذه التجربة تعكس أهمية تفكيك النظام المركزي الاستبدادي لتأسيس نظام أكثر شمولية وشفافية يعكس تنوع المجتمع.
4. جنوب أفريقيا: النموذج الديمقراطي لتقاسم السلطة بعد الفصل العنصري
تميزت تجربة جنوب أفريقيا بالانتقال السلمي من حكم الأقلية البيضاء إلى نظام ديمقراطي متعدد الأعراق بعد انتهاء الفصل العنصري. اتسم هذا الانتقال بمرونة في توزيع السلطات على المستويين المركزي والمحلي، وبناء مؤسسات تهدف إلى إدماج المكونات المتنوعة، مما وفر بيئة سياسية مستقرة نسبيًا مقارنة بما سبق.
إلى أي مدى يمكن تطبيق هذه التجارب في سوريا؟
في سوريا، تتداخل عوامل معقدة من حيث التنوع الإثني والطائفي، الأيديولوجيات السياسية، التدخلات الإقليمية، والوصاية الخارجية، ما يجعل ملف اللامركزية تحدياً دقيقاً. إلا أن استمرارية الصراعات في مناطق مثل السويداء، الساحل السوري ، مناطق الإدارة الذاتية، تؤكد أن الإصرار على نموذج الحكم المركزي الشمولي لا يقدم حلولاً مستدامة، بل قد يقود إلى مزيد من التوتر والانقسام.
استمرار الصدامات ورفض النظام السوري للامركزية
رغم ما شهدته الساحة السورية من تحولات كبرى ، لا تزال بنية النظام السوري تحتفظ بطابعها المركزي الصارم، المستند إلى أيديولوجية البعث، هذه الأيديولوجية، القائمة على مركزية السلطة وتفردها في صنع القرار، تنظر إلى أي نموذج للحكم اللامركزي أو الإدارة الذاتية كتهديد مباشر لوحدة الدولة وسيادتها، مما يدفع النظام إلى رفض أي مشروع سياسي يُعيد توزيع السلطة خارج نطاق العاصمة دمشق.
وقد عبّر النظام السوري، مراراً وتكراراً، عن رفضه الاعتراف بالإدارة الذاتية في شمال وشرق البلاد، أو حتى الدخول في مفاوضات جدية معها. ويستند في ذلك إلى رؤية أيديولوجية تعزز من مركزية الحكم وتُقصي الآخر، سواء على أسس قومية أو دينية، إلى جانب اعتماد الدولة المكثف على أجهزة أمنية وعسكرية متغلغلة في مفاصل الحياة السياسية والإدارية، ما يشكل حاجزاً أمام أي تحول ديمقراطي أو لامركزي، وبعد سقوط نظام حكم الأسد وحزب البعث لا تزال استمرارية هذه الأيديولوجية مستمرة و اكثر صرامة مدفوعة بالدفاع عنها بقوة السلاح وهذا ما وضح جليا في أحداث مدينة السويداء.
هذه السياسة المركزية لا تعكس فقط موقفاً أيديولوجياً، بل تُعد جزءاً من استراتيجية بقاء النظام، حيث يربط بين تماسك الدولة واستمرار سيطرته على السلطة والاقتصاد و الرأس المال، رافضاً بشكل قاطع أي صيغة تفاهم قد تمنح القوى المحلية نوعاً من الحكم الذاتي، حتى ضمن نطاق إداري محدود.
الأبعاد الإقليمية وتأثير الضغوط الخارجية
لا يمكن فهم تعنّت النظام السوري بمعزل عن التأثيرات الإقليمية المتشابكة التي تلقي بظلالها على المشهد الداخلي. فتركيا، على سبيل المثال، تُعد من أبرز القوى الإقليمية المعارضة لفكرة الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا، حيث تنظر إليها كتهديد مصيري لها وربما محرك لسقوط الدولة وتغيرها إلى نظام ديمقراطي يعترف فيها دستوريا و إداريا بالمكونات العرقية الآخر الغير التركية مثل ” الكورد، العرب، السريان، اللاز “وغيرها ، إلى جانب العداء لوجود القوات سوريا الديمقراطية ومن ضمنها قوات حماية الشعب ، لذا دائما ما تكون أنقرة حاضرة من خلال ممارسة ضغوطاً سياسية وعسكرية مستمرة تهدف إلى منع نشوء أي كيان كردي مستقل أو شبه مستقل على حدودها الجنوبية، وهو ما يدفعها إلى التنسيق الضمني أو العلني مع النظام السوري أحياناً لإجهاض أي مسار نحو اللامركزية.
في المقابل، تلعب دول الخليج، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، دوراً معقداً في هذا السياق. فبينما تعمل الرياض على كبح جماح النفوذ الإيراني في سوريا، فإنها في ذات الوقت تدعم بقاء النظام ضمن إطار “الدولة الواحدة”، وتتبنى رؤية لا تفتح المجال لتطور نموذج ديمقراطي حقيقي يضمن مشاركة واسعة للقوى المجتمعية والسياسية المختلفة. هذا التوازن الخليجي الدقيق، المدفوع بحسابات جيواستراتيجية تتعلق بمواجهة المحور الإيراني-الروسي، والخشية من تمدد النفس الديمقراطي لتداول السلطة وإدارة حكم البلاد والذي قد لا يصب في نهاية المطاف في مصلحة استمرار النظام المركزي بصيغته الملكية ويُضعف من فرص تطوير نموذج حكم شامل وممثل للتنوع في البلاد.
ما هو “الحل السوري”؟ أزمة وطنية أم فرصة لإعادة التأسيس؟
بعد أكثر من عقد من الدماء والدمار، لم يعد السؤال المركزي في سوريا يتمحور فقط حول وقف الحرب، بل أصبح أكثر تعقيدًا: كيف نعيد تعريف الدولة السورية؟. لقد تجاوزت الأزمة السورية الطابع الأمني والسياسي، لتتحول إلى أزمة وطنية شاملة، تشمل بنية الدولة، هوية المجتمع، وعلاقة الحاكم بالمحكوم. ولم يعد من الممكن تجاهل أن سوريا التي نشأت بعد الاستقلال لم تعد قادرة، بصيغتها المركزية الصارمة، على احتواء التنوع أو تلبية تطلعات شعبها
ربما يبدو الحديث عن حل شامل في سوريا، في ظل الانهيار الاقتصادي والتدخلات الإقليمية والصراعات الدولية، نوعًا من التفاؤل المفرط. لكن إذا ما تم التقاط اللحظات المفصلية — كما في السويداء أو شمال وشرق سوريا — وتوظيفها كفرص لإعادة التأسيس لا كأزمات معزولة، فإن بوادر التحول تلوح في الأفق.
لقد آن الأوان لسوريا أن تُعيد تعريف نفسها لا كدولة موحدة بالقوة، بل كوطن جامع بالعدالة والمشاركة والكرامة. وحينها فقط، يمكن القول إن طريق الحل السوري قد بدأ.