شهدت سوريا منذ عام 2011 تحولاً جذرياً من حراك شعبي سلمي إلى صراع مسلح متشعب الأطراف، تقاطعت فيه مصالح محلية وإقليمية ودولية. في خضم هذا النزاع، برزت ظاهرة “غنائم الحرب“، التي تمثلت في عمليات نهب، سلب، مصادرة، واستيلاء على الممتلكات العامة والخاصة. لم تكن هذه الممارسات مجرد تجاوزات فردية، بل تحولت في كثير من الأحيان إلى سياسة ممنهجة وذريعة لارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني. يستعرض هذا التقرير الجوانب القانونية والأخلاقية لمفهوم الغنائم في الحرب السورية، مع تطبيق تفصيلي على أبرز المحطات التي شهدت تلك الممارسات، مثل عفرين، رأس العين، تل أبيض، والمناطق التي سيطرت عليها مختلف الأطراف الفاعلة.
أولاً: الإطار القانوني الدولي لمفهوم الغنائم والنهب
1. اتفاقيات لاهاي 1899 و1907
أكدت اتفاقيات لاهاي على ضرورة احترام الملكية الخاصة أثناء النزاعات المسلحة. تنص المادة (47) من اللائحة الملحقة باتفاقية لاهاي 1907 بوضوح على أن “النهب محظور تماماً”، حتى في حالات السيطرة بالقوة. كما تحظر المادة (46) الاعتداء على الملكية الخاصة، وتُجرم تدمير الممتلكات دون ضرورة عسكرية. هذه المبادئ وُضعت لضمان الحد من الأضرار على المدنيين خلال الحروب. (المصدر: اتفاقية لاهاي 1907، اللائحة المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية).
2. اتفاقيات جنيف 1949 والبروتوكولات الإضافية
تعتبر اتفاقيات جنيف، وخصوصًا الاتفاقية الرابعة، حجر الأساس في حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة. المادة (33) تحظر أعمال النهب والانتقام ضد الأشخاص المدنيين، فيما تمنع المادة (49) النقل القسري الجماعي. كما أن البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 يوسّع نطاق الحماية ليشمل الممتلكات الثقافية والمدنية. (المصدر: اللجنة الدولية للصليب الأحمر، اتفاقية جنيف الرابعة 1949 والبروتوكولات الإضافية).
3. نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998)
يُدرج نظام روما الأساسي النهب ضمن جرائم الحرب في المادة (8/2). كما يُصنف النقل القسري، الهجمات المتعمدة على الأعيان المدنية، وتدمير الممتلكات بدون ضرورة عسكرية على أنها جرائم يمكن ملاحقة مرتكبيها أمام المحكمة الجنائية الدولية. (المصدر: المحكمة الجنائية الدولية، نظام روما الأساسي، 1998).
4. اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية 1954
تنص الاتفاقية على إلزام الدول الأطراف بحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح. وتمنع استخدام تلك الممتلكات أو استهدافها عسكريًا، كما تُلزم الأطراف بالامتناع عن أعمال الانتقام ضد التراث الثقافي. (المصدر: منظمة اليونسكو، اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية، 1954).
ثانيًا: ممارسات فصائل المعارضة السورية المسلحة (2012 – حتى الآن)
مع اندلاع الحرب الاهلية السورية وتحولها إلى صراع مسلح، بدأت فصائل المعارضة المسلحة بالسيطرة على مساحات واسعة من الأراضي التي انسحب منها النظام السوري، خصوصًا في شمال وشرق البلاد. ورغم أن الكثير من هذه الفصائل رُوّج لها بدايةً كمجموعات ثورية تهدف إلى حماية المدنيين وإسقاط النظام، إلا أن الممارسات التي تبعت توسّع سيطرتها أظهرت وجهًا آخر للصراع، تمثّل في انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان ولقواعد القانون الدولي الإنساني.
نهب المؤسسات العامة والخاصة
منذ عام 2012، ومع التقدم السريع للفصائل المسلحة في مدن كحلب وإدلب وريف دمشق، برزت ممارسات غير منضبطة شملت نهب المؤسسات الحكومية، والاستيلاء على مقار كانت تابعة لأجهزة الأمن، فضلاً عن السيطرة على ممتلكات خاصة تعود لمدنيين يُشتبه بولائهم للنظام، أو لكونهم من الأقليات الدينية أو العرقية. كثير من تلك الممارسات وُصفت من قبل قادة ميدانيين بأنها “غنائم حرب”، مستندين إلى تفسيرات دينية فضفاضة، رغم غياب أي إجماع شرعي أو قانوني حول مشروعية هذه الأفعال في السياق السوري.
في المناطق الصناعية والتجارية، لا سيما في مدينة حلب القديمة، تعرّضت منازل التجار والمستودعات والمصانع للنهب المنهجي، حيث تم تفكيك خطوط الإنتاج ونقلها إلى مناطق أخرى داخل سوريا أو إلى تركيا عبر شبكات تهريب. تورّط بعض قادة الفصائل المحلية في هذه العمليات، والتي تحوّلت مع الوقت إلى مصدر تمويل للفصائل بديل عن الدعم الخارجي.
غياب التنظيم وتعدد المرجعيات
رغم محاولات بعض الكتائب التابعة للمعارضة وضع “مدونات سلوك” أو إصدار تعليمات دينية تقيد هذه التصرفات، إلا أن غياب قيادة مركزية موحدة، وتعدد المرجعيات الفكرية والدينية، جعل من ضبط هذه الممارسات أمرًا شبه مستحيل. وقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR) في تقريرها الصادر عام 2013، عشرات الحالات التي جرى فيها نهب ممتلكات المدنيين بشكل علني ومنهجي، مما يعكس غياب أي التزام بالقوانين الدولية، بما في ذلك اتفاقيات جنيف التي تحظر النهب في أوقات النزاع المسلح.
(المصدر: SNHR، تقرير “الانتهاكات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام”، 2013)
عفرين (2018 – حتى الآن): انتهاكات تحت مظلة “غصن الزيتون”
في يناير 2018، أطلقت تركيا عملية “غصن الزيتون” العسكرية في منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية، بالتعاون مع فصائل تابعة لـ”الجيش الوطني السوري” المعارض. ومع سيطرتهم على المنطقة، بدأت موجة من الانتهاكات الواسعة وذات الطابع المنظم، شملت:
نهب ممنهج للمنازل، المحال التجارية، والحقول الزراعية، بما في ذلك أشجار الزيتون التي تم اقتلاعها أو مصادرتها.
مصادرة المنازل الكردية وإسكان نازحين من مناطق أخرى، ضمن سياسة توطين وُصفت بأنها تهدف لتغيير التركيبة السكانية في المنطقة.
الاعتداء على الرموز الدينية والمزارات الإيزيدية، التي تعرّض العديد منها للتدمير أو التدنيس، فضلاً عن نهب ممتلكات الطوائف الدينية.
تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش في مارس 2018، وصف هذه الانتهاكات بأنها “ممنهجة” وتشكل خرقًا فاضحًا للقانون الإنساني الدولي، مضيفًا أن القوات التركية تتحمل المسؤولية المباشرة أو غير المباشرة عنها، كونها الجهة المسيطرة فعليًا.
(المصدر: HRW، “Syria: Looting, Lawlessness Follow Kurdish Enclave Seizure”)
رأس العين وتل أبيض (2019 – حتى الآن): التهجير وتغيير ديمغرافي
في أكتوبر 2019، أطلقت تركيا عملية “نبع السلام” بالتعاون مع فصائل “الجيش الوطني السوري”، مستهدفة المناطق الحدودية الواقعة بين رأس العين وتل أبيض. وقد شهدت هذه المناطق، خلال العمليات وبعدها، سلسلة من الانتهاكات الموثقة، منها:
مصادرة البيوت التي أُجبر أصحابها على الفرار بسبب القصف أو التهديد، وتم تحويلها إلى مساكن لمقاتلين أو نازحين موالين للفصائل.
نهب المرافق العامة، بما في ذلك المستشفيات، المدارس، ومراكز الكهرباء والمياه.
إعادة توطين نازحين من مناطق أخرى بدلًا من السكان الأصليين، ما يُعتبر وفق القانون الدولي “نقلًا قسريًا للسكان”، وهو ما يمكن تصنيفه كجريمة حرب.
منظمة العفو الدولية وثّقت هذه الانتهاكات في تقريرها الصادر في أكتوبر 2019، مؤكدة أن الممارسات التي ارتُكبت في المناطق التي سيطرت عليها الفصائل بدعم تركي “تشكل أدلة دامغة على جرائم حرب”، وأن سياسات التغيير الديمغرافي في هذه المناطق تحمل دلالات واضحة على نية إحداث تغيير دائم في هوية السكان، بما يتناقض مع مبادئ القانون الإنساني الدولي.
(المصدر: Amnesty International، “Syria: Damning evidence of war crimes and human rights violations”, 2019)
ثالثًا: تنظيم داعش و”النهب العقائدي” (2014–2017)
مع إعلان تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) عن قيام ما أسماه بـ”الخلافة الإسلامية” في منتصف عام 2014، وسيطرته على مساحات شاسعة من الأراضي في كل من سوريا والعراق، بدأ التنظيم في تطبيق منظومة حكم متشددة، تقوم على تأويلات متطرفة للنصوص الدينية. أحد أبرز أوجه هذا النظام كان ما يمكن تسميته بـ”النهب العقائدي”، حيث تم شرعنة السلب والنهب بوصفها جزءًا من “الغنائم الشرعية”، المستندة إلى فقه الغزوات في العصور الإسلامية الأولى، وفق تأويل التنظيم.
“ديوان الغنائم”: مؤسسة النهب باسم الدين
لإضفاء طابع تنظيمي على هذه الممارسات، أنشأ التنظيم جهازًا إداريًا رسميًا يُعرف بـ”ديوان الغنائم”، يتبع مباشرة للقيادة المركزية للتنظيم، ويتولى الإشراف على عمليات جرد وتوثيق وتوزيع الممتلكات المصادرة من الأفراد والمجتمعات “غير المسلمة” أو “المرتدة” بحسب تصنيف التنظيم. ولم تكن هذه العمليات عشوائية، بل كانت مدونة وتتم وفق سجلات رسمية، ما يعكس الطبيعة المنظمة لهذه الجرائم.
الغنائم التي تمت مصادرتها تنوعت وتشعبت، لتشمل:
مصادرة أملاك المسيحيين والإيزيديين الذين كانوا يعيشون في مناطق مثل الموصل، الرقة، ودير الزور. غالبًا ما كانت هذه المصادرات تتبع إصدار “إنذارات” لهم بالخروج أو الدخول في الإسلام أو مواجهة القتل.
استعباد النساء والفتيات من الطائفة الإيزيدية على وجه الخصوص، حيث تم بيعهن في “أسواق النخاسة” التي أقامها التنظيم في كل من الرقة والموصل، أو توزيعهن كمكافآت للمقاتلين.
نهب المنشآت الصناعية والتجارية، بما فيها المصانع ومحطات الطاقة والمخازن الزراعية، وتحويلها إلى موارد اقتصادية تدعم آلة الحرب الداعشية.
بيع الآثار المنهوبة من مواقع أثرية تعود لآلاف السنين، مثل مدينة تدمر، في السوق السوداء الدولية، لتمويل العمليات العسكرية وجذب مزيد من المقاتلين الأجانب.
النهب كجزء من استراتيجية التطهير
النهب الذي مارسه تنظيم داعش لم يكن مجرد أداة لجمع الثروات أو إضعاف الخصوم، بل كان جزءًا من استراتيجية أوسع للتطهير الديني والثقافي، تهدف إلى إحداث تغيير جذري في البنية السكانية والدينية للمنطقة. فالمصادرة المنهجية لممتلكات المسيحيين والإيزيديين، وتدمير دور العبادة والمزارات الدينية، كان الهدف منها محو وجود هذه الجماعات من الذاكرة المكانية والاجتماعية للمنطقة.
وقد وصفت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، التابعة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، في تقريرها الصادر في يونيو 2016، ممارسات داعش بأنها ترقى إلى جرائم إبادة جماعية ضد الإيزيديين، مشيرة إلى أن عمليات النهب لم تكن مجرد نتائج عرضية للنزاع، بل كانت جزءًا أساسيًا من سياسة منظمة تقوم على التمييز الديني والإقصاء العقائدي.
(المصدر: UNHRC، تقرير لجنة التحقيق بشأن سوريا، يونيو 2016)
رابعًا: سياسة المصادرة في مناطق سيطرة النظام السوري
منذ بداية النزاع السوري، سلك النظام مسارًا مزدوجًا في التعامل مع الممتلكات الخاصة للمعارضين أو المهجرين قسرًا. فمن جهة، استخدم القصف والتدمير كأداة عسكرية لإخضاع المناطق الثائرة، ومن جهة أخرى، عمد إلى تقنين الاستيلاء على الأملاك الخاصة والعقارات من خلال منظومة قانونية وتشريعية ظاهرها التنظيم وإعادة الإعمار، وباطنها المصادرة والحرمان المنهجي.
القانون رقم 10 لعام 2018: أداة مصادرة تحت غطاء “إعادة التنظيم”
في أبريل 2018، أصدر النظام السوري القانون رقم 10، والذي أثار موجة واسعة من الانتقادات والقلق، سواء محليًا أو دوليًا. يُجيز هذا القانون للسلطات إنشاء مناطق تنظيم عمراني جديدة، ويُلزم أصحاب العقارات بتقديم إثبات ملكيتهم خلال مهلة لا تتجاوز 30 يومًا من إعلان المنطقة التنظيمية. في واقع الأمر، تبدو هذه المهلة غير واقعية في ظل الظروف الأمنية، والنزوح الواسع، والقيود على السفر، خصوصًا أن مئات آلاف السوريين يعيشون في مناطق معارضة أو في دول اللجوء ولا يمكنهم العودة لأسباب أمنية.
هذا القانون، بمضمونه وتوقيته، يُعد في جوهره تشريعًا رسميًا للمصادرة، يتيح للسلطات الاستيلاء على أملاك من تعتبرهم “غيابيين”، وغالبًا ما يكونون من فئات المعارضة السياسية أو من المجتمعات التي خضعت للتهجير القسري نتيجة العمليات العسكرية.
“إعادة الإعمار” كغطاء للتهجير الدائم
تطبيق القانون رقم 10 لم يكن مسألة نظرية، بل طُبّق عمليًا في مناطق محددة كان لها رمزية كبيرة في الحرب الاهلية السورية، مثل:
بابا عمرو والوعر في مدينة حمص، وهما من أولى المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام.
داريا في ريف دمشق، والتي كانت رمزًا للمقاومة المدنية والمسلحة ضد النظام.
القابون وبرزة، حيث تم إخلاء السكان بالقوة بعد اتفاقات “مصالحة” قسرية، لتُعاد هندسة الأحياء بشكل يُقصي سكانها الأصليين.
ووفق ما ورد في تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2018، فإن هذه القوانين “تشكّل أداة قانونية للنهب الرسمي”، وتمثل وجهًا جديدًا من أوجه العقاب الجماعي ضد المجتمعات التي ناهضت النظام، وتُسهم في ترسيخ تغيير ديمغرافي مدروس من خلال منع عودة السكان الأصليين وحرمانهم من حق السكن والملكية.
التقرير ذاته أشار إلى غياب أي آلية تعويض عادلة أو شفافة، وإلى وجود ثغرات قانونية كبيرة تتيح للسلطات الأمنية والعسكرية السيطرة الفعلية على المناطق المصادرة دون رقابة أو مساءلة.
(المصدر: Amnesty International، “سوريا: القانون 10 وسرقة أملاك المدنيين”، 2018)
سادسًا: الهجمات على السويداء والدروز (2025)
1. السياق السياسي والعسكري: صعود “تحرير الشام” جنوبًا
منذ أواخر حزيران/يونيو وحتى منتصف تموز/يوليو 2025، شهدت محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية تصعيدًا عسكريًا خطيرًا، قادته فصائل إسلامية متشددة بتنسيق مباشر مع “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا) بقيادة أحمد الشرع، المعروف بـ”أبو محمد الجولاني”، والتي تشكل وترأس “الحكومة السورية المؤقتة”.
ترافق هذا الهجوم مع تقاعس واضح من قبل النظام السوري، وسط مؤشرات على تواطؤ بعض وحداته الأمنية والتلاعب السياسي يعكس التوافق والتلاعب الدولي، خاصة في المناطق المحيطة بمواقع الاشتباك. وجاء التصعيد ضمن استراتيجية “تحرير الشام” لتوسيع نفوذها باتجاه الجنوب السوري ضمن ما يسمى بسيطرة الدولة والقوى الامنية علي المحافظة، مستغلة حالة من الغموض الدولي، إلى جانب دعم تركي غير مباشر عبر واجهات وشبكات محسوبة على المعارضة الرسمية السابقة.
في المقابل، أظهرت القوى المحلية الدرزية عجزًا عن التصدي للهجوم أو استيعابه، مما أتاح الجهات من “عناصر الامن السوري وجيشه الي جانب قوى عشائرية موالية له ، وعناصر من تنظيم داعش” المهاجمة فرض سيطرتها على نقاط داخل ومحيط مدينة السويداء. هذا الواقع فتح الباب أمام مشهد معقد من التصفيات الطائفية، ومحاولات إعادة هندسة موازين القوى في الجنوب السوري، تحت غطاء ديني وأيديولوجي، ووسط فوضى أُتيح فيها النهب والسرقة تحت مسمى “غنائم الحرب”.
2. النهب والحرق والقتل تحت غطاء “غنائم الحرب”
ترافقت العمليات العسكرية في السويداء خلال تموز/يوليو 2025 مع سلسلة واسعة من الانتهاكات الجسيمة، تمثّلت في موجة من أعمال النهب الممنهجة، وإحراق الممتلكات، والقتل الميداني، تحت ذريعة “غنائم الحرب”.
بمجرد اقتحام القرى والبلدات الدرزية، باشرت المجموعات المسلحة أو جماعات متشددة أخرى، بفرض سيطرتها على المنازل والمحال والمزارع، حيث تم نهب كل ما يمكن الاستيلاء عليه: من الأثاث والمعدات الإلكترونية، إلى المواد الغذائية والأدوية. هذه الممتلكات سوف يتم بيعها في السوق السوداء، ضمن ما يشبه سياسة اقتصادية حربية ممنهجة.
كما طالت الانتهاكات الممتلكات العامة، بما فيها المستشفيات والمدارس، حيث تم نهب المعدات الطبية واللوجستية وتحويلها إلى “غنائم حرب”. وقد وثّقت تقارير ميدانية، مدعومة بصور ومقاطع فيديو، هذه الانتهاكات التي نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات تابعة للفصائل المسلحة.
الإحراق المتعمد كان أحد أدوات التهجير القسري، حيث أُحرقت مئات المنازل بعد نهبها، في محاولة لترويع السكان ودفعهم إلى النزوح. مشاهد الحرائق الجماعية للمنازل والمحال شكلت صدمة للرأي العام، وعكست تصعيدًا خطيرًا يستهدف البنية المجتمعية للسويداء.
إلى جانب ذلك، ارتكبت الفصائل المهاجمة جرائم قتل ميداني بحق مدنيين، فيما وصفه شهود عيان بأنه عمليات “تصفية طائفية”. طالت عمليات القتل كل من حاول المقاومة أو رفض الخضوع، وأحدثت صدمة عميقة في المجتمع المحلي وأجبرت آلاف العائلات على النزوح.
كل هذه الانتهاكات، التي مورست تحت ذريعة “غنائم الحرب“، تكشف عن نمط ممنهج يستهدف تفكيك النسيج الاجتماعي للمجتمع الدرزي في السويداء، وفرض واقع جديد بقوة السلاح والعنف الأيديولوجي. وهو ما يشكل خرقًا فاضحًا للقانون الدولي الإنساني، ويدعو إلى تدخل عاجل من المنظمات الحقوقية الدولية لمساءلة المسؤولين عن هذه الجرائم والانتهاكات.
سابعاً – الرأي الديني والقانون الدولي حول السرقة ونهب ممتلكات المدنيين في الحروب:
تود إذاعة One FM التنويه بأنها لا تتبنى أي آراء أو أفكار دينية في هذا الموضوع، وإنما تهدف من خلال هذا الطرح إلى تقديم تحليل موضوعي ومعلومات دقيقة حول المضمون الديني والقوانين الدولية المتعلقة بحماية ممتلكات المدنيين في سياق النزاعات المسلحة.
1. المضمون الديني ونظرته إلى عمليات السرقة ونهب الممتلكات المدنية
يُعد حفظ حقوق الملكية من المبادئ الجوهرية في الأديان السماوية، وعلى رأسها الإسلام الذي يولي احترامًا عميقًا للممتلكات الخاصة وحرمتها. فالسرقة والنهب ليست فقط مخالفة اجتماعية وأخلاقية، بل هي محرمة شرعًا وتندرج ضمن الكبائر التي تُعاقب عليها الشريعة الإسلامية بأشد العقوبات. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29]، مما يوضح تحريم الاعتداء على أموال الناس بغير حق. هذه النصوص تعكس مبدأ أساسي في الإسلام هو حفظ الحقوق وعدم الاعتداء على ممتلكات الآخرين، بما في ذلك في أوقات الحروب.
في سياق الحروب، يفرق الفقه الإسلامي بين غنائم الحرب التي تُأخذ من مقاتلي العدو أو من ساحة القتال، وبين ممتلكات المدنيين الأبرياء التي لا يجوز المساس بها. إن نهب ممتلكات المدنيين يُعد تعديًا صارخًا على مبادئ الشريعة، خاصة إذا كانوا غير مشاركين في الأعمال القتالية. ويشدد الفقهاء على ضرورة التمييز بين المقاتلين والمدنيين، وحماية الأخيرين وأموالهم من الاعتداء، إذ إن الغرض من القتال لا يشمل التجاوز على حقوق الأبرياء.
ومع ذلك، شهد الواقع في بعض النزاعات أن بعض الفصائل المسلحة حاولت تبرير عمليات النهب والسرقة من خلال تفسيرات دينية غير صحيحة أو فضفاضة، وهو أمر مرفوض باتفاق الفقهاء والعلماء. لا يعترف الشرع بأي مبرر لمصادرة ممتلكات المدنيين بناءً على انتماء ديني أو عرقي، ولا يسمح بأي تغيير ديمغرافي قسري أو تهجير مبني على الهوية أو العقيدة. وعليه، فإن مثل هذه الممارسات تعد انحرافًا عن روح الشريعة التي تدعو إلى العدل والرحمة.
في العصر الحديث، أكد علماء الدين المعاصرون أهمية احترام قواعد الحرب العادلة التي تحمي المدنيين وممتلكاتهم، مؤكدين أن الالتزام بهذه القواعد يعكس الأمانة الدينية والأخلاقية، ويحول دون الانزلاق إلى الفوضى والفساد، ويعزز مبدأ حفظ كرامة الإنسان وحقوقه.
2. مدى توافق الرأي الديني مع القوانين الدولية حول غنائم الحرب
يتناغم المضمون الديني المتعلق بتحريم السرقة ونهب ممتلكات المدنيين بشكل كبير مع المبادئ التي يقرها القانون الدولي الإنساني. فقد نصت اتفاقيات لاهاي واتفاقيات جنيف، والتي تُعد من أبرز المواثيق الدولية المنظمة لسلوك الأطراف في النزاعات المسلحة، على حماية المدنيين وأملاكهم من التدمير والنهب غير المبرر. تُعتبر عمليات النهب من الانتهاكات الخطيرة التي تعاقب عليها القوانين الدولية باعتبارها خرقًا لقواعد القانون الدولي الإنساني.
تحظر اتفاقيات لاهاي لعامي 1899 و1907 النهب بشكل صريح، حيث تؤكد على أن الممتلكات المدنية لا يجوز تدميرها أو الاستيلاء عليها إلا إذا اقتضت الضرورة العسكرية ذلك. ويُفسر القانون الدولي أن نهب ممتلكات المدنيين ليس له مبرر عسكري، وبالتالي هو فعل محظور يُعد جريمة حرب. يتماشى هذا الموقف مع الأوامر الدينية التي تنص على عدم الاعتداء على أموال الناس ظلماً.
علاوة على ذلك، جاء نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليصنف النهب ضمن جرائم الحرب، ما يعكس الجدية الدولية في مكافحة هذه الانتهاكات وحماية حقوق الإنسان في الحروب. كما يُجرم القانون الدولي النقل القسري للسكان أو التغيير الديمغرافي القسري في مناطق النزاع، باعتبارها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو ما يتفق مع المبادئ الدينية التي تمنع الاعتداء على كرامة الإنسان وحقوقه، وتحظر التمييز والعنف القائم على الهوية الدينية أو العرقية.
بالتالي، يمكن القول إن هناك توافقًا واضحًا بين القيم الدينية التي تحث على حفظ حقوق المدنيين وممتلكاتهم، وبين القوانين الدولية التي تحمي هذه الحقوق، ما يجعل أي انتهاك من هذا النوع مخالفًا شرعًا وقانونًا على حد سواء.
3. التناقضات الواقعية بين ممارسات بعض الفصائل وأحكام الدين والقانون الدولي
رغم وضوح النصوص الدينية والقوانين الدولية في تحريم السرقة ونهب ممتلكات المدنيين، إلا أن الواقع على الأرض يكشف عن انتهاكات ممنهجة باسم الدين في كثير من النزاعات، خاصة في الصراعات المسلحة داخل سوريا. استغلت بعض الفصائل المسلحة مبررات دينية فضفاضة وغير صحيحة لتبرير عمليات النهب والسرقة، مستغلة غياب الرقابة الشرعية الموحدة وعدم توحيد المرجعيات الدينية والقانونية، ما أدى إلى انتشار تجاوزات خطيرة تخالف المبادئ الشرعية والقانونية.
أمثلة كثيرة برزت في مناطق مثل عفرين ورأس العين وتل أبيض، حيث تم نهب المنازل والممتلكات المدنية بشكل واسع، مسببًا أضرارًا اجتماعية واقتصادية جسيمة للسكان الأصليين. كما استخدمت “الدولة الإسلامية” تفسيرًا متشددًا خاطئًا للنصوص الدينية لفرض سيطرتها ونهب الممتلكات بطريقة منظمة، في خرق واضح لروح الشريعة الإسلامية ومبادئ القانون الدولي.
أيضًا، تم استخدام النهب كأداة للتهجير القسري وتغيير التوازنات الديمغرافية، كما حصل في بعض مناطق السويداء بحق الطائفة الدرزية، ما يعكس انتهاكًا صارخًا لمبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي، بالإضافة إلى مخالفته الصريحة للأحكام الشرعية التي تحرم التمييز والعنف ضد المدنيين بناء على هويتهم.
كل هذه الانتهاكات تظهر فجوة بين النظريات الدينية والقانونية من جهة، والممارسات على الأرض من جهة أخرى، تعود أساسًا إلى الفراغ في القيادة الشرعية، وضعف تنفيذ القانون الدولي، وانتشار الفوضى المسلحة التي تسمح بانتهاك الحقوق دون محاسبة.