في صباح 29 يناير 2025، استيقظ السوريون على تحول تاريخي غير مسبوق: أحمد الشرع، المعروف باسم "أبو محمد الجولاني"، زعيم هيئة تحرير الشام، يتولى رئاسة الجمهورية ضمن حكومة سورية مؤقتة، أنهت فعليًا عقودًا من حكم آل الأسد. هذا التغيير الجذري لم يكن نتيجة ثورة شعبية أو انقلاب عسكري، بل جاء عبر هندسة معقدة لتحالف غير معلن بين أطراف متضادة، توحدت خلف هدف مشترك: إسقاط النظام، وإعادة توزيع النفوذ.
هيئة تحرير الشام: من الميدان إلى الدولة
التحول الأبرز كان في صعود هيئة تحرير الشام، التي كانت مصنّفة كتنظيم جهادي، إلى رأس السلطة السياسية. تمكّنت الهيئة من بسط نفوذها داخل الحكومة المؤقتة عبر السيطرة على الوزارات السيادية الثلاث: وزارة الدفاع التي يقودها مرهف أبو قسورة، ووزارة الداخلية برئاسة أنس خطاب، ووزارة الخارجية والمغتربين التي يتولاها أسعد شبلياني. هذه الهيمنة لم تقف عند هذا الحد، بل امتدت إلى وزارات مؤثرة مثل الإدارة المحلية (محمد عتجناني)، الإسكان (مصطفى عبد الرزاق)، التنمية الإدارية (محمد إسكاف)، الطاقة (محمد البشير)، والعدل (مختار الويـس). بهذا، تحولت الهيئة من فاعل عسكري إلى مركز سلطة حقيقية.
الإخوان المسلمون: مهندسو السردية الجديدة
رغم غيابهم عن المواجهات المسلحة، لعب الإخوان المسلمون دورًا بالغ التأثير في تشكيل هوية الحكومة الجديدة. تولوا الوزارات ذات الصبغة الثقافية والدينية والإعلامية، مما منحهم القدرة على رسم الرواية الرسمية للدولة الوليدة. حمزة مصطفى تسلّم وزارة الإعلام، ومحمد أبو الخير شكري وزارة الأوقاف، في حين تولى محمد صالح وزارة النفط، ورائد الصالح وزارة الطوارئ والكوارث، ومازن صاحياني وزارة السياحة. هذا التوزيع أتاح لهم التأثير في الوعي الجمعي وصياغة توجهات الدولة، دون الدخول في صراعات ميدانية.
بعثيون سابقون: الاستمرارية بوجوه مألوفة
الحكومة الجديدة لم تقطع تمامًا مع النظام السابق، بل أعادت تدوير بعض رموزه ضمن مزيج تكتيكي يهدف إلى طمأنة الداخل والخارج. فقد تولى محمد يسر برينة وزارة المالية، فيما تسلّم مراد الجلبي وزارة التعليم العالي، و كذلك أُسندت وزارة الزراعة إلى المعيد يبر، المحسوب على منظومة الأسد. هذه العودة لم تكن ناتجة عن مصالحة وطنية، بل عن حسابات تتعلق بالخبرة الإدارية والاستجابة لمطالب قوى إقليمية تفضّل التعامل مع كوادر "مجرّبة".
تركيا: المعماري الخفي للمشهد الجديد
برز الدور التركي كأحد المحاور الأساسية في صناعة المرحلة الانتقالية. أنقرة نسّقت مباشرة مع هيئة تحرير الشام، وضمنت من خلالها ضبط الوضع الأمني في الشمال ومنع قيام كيان كردي مستقل، كما رعت تحالفًا مرنًا بين الهيئة والإخوان وبعض المنشقين من النظام، ضمن ترتيبات تضمن مصالحها الاستراتيجية في سوريا. لم تكن تركيا طرفًا ظاهريًا، لكنها كانت اللاعب الأكثر تأثيرًا خلف الكواليس.
الولايات المتحدة: صمت استراتيجي وموافقة ضمنية
منذ سنوات، تخلّت واشنطن عن مطلب "رحيل الأسد"، لكنها حافظت على موقف داعم للاستقرار الجزئي. تصاعد التحديات الأمنية المرتبطة بالفرقة الرابعة وتهريب الكبتاغون، إضافة إلى تنامي التهديدات الإيرانية، جعل استمرار النظام عبئًا على التوازن الإقليمي. ورغم عدم إعلانها دعم الجولاني، قبلت الإدارة الأمريكية بالأمر الواقع، طالما أن القوى الصاعدة لا تشكل تهديدًا مباشرًا وتبدي استعدادًا لتعاون أمني محدود.
السعودية: عودة محسوبة إلى الملف السوري
بعد سنوات من الانكفاء، عادت الرياض إلى المشهد السوري عبر دعم وزراء مستقلين وتكنوقراطيين، لتقليص نفوذ الإخوان، وتحقيق توازن عربي في التشكيلة الجديدة. تولى عبد السلام هيكل وزارة الاتصالات، ونضال شعار وزارة الاقتصاد، ومهيب نزال العلي وزارة الصحة، ومحمد سامح طاحون وزارة الرياضة والشباب، ويحيى بدر وزارة النقل، فيما عُهدت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل إلى هنذ قنوات كمثيل شكلي لدور النسوة في الحكم. هذه الأسماء شكّلت رافعة سعودية داخل الحكومة، بهدف تأمين بيئة مناسبة للمساهمة لاحقًا في إعادة الإعمار.
إسرائيل: الربح من سقوط الأسد... والقلق من البديل
رغم عدم إصدارها موقفًا رسميًا، كانت إسرائيل من أكثر المستفيدين من سقوط الأسد. فقد أدى تراجع نفوذ الفرقة الرابعة وغياب الحرس الثوري الإيراني عن الجنوب إلى تقليص التهديدات الأمنية المباشرة. غير أن صعود هيئة تحرير الشام وتضخم ترسانتها العسكرية، يثيران مخاوف من انزلاق الوضع إلى فوضى مستدامة على الحدود. كما أن الحضور التركي الاستخباراتي المتزايد يشكل تحديًا جديدًا لمعادلة الردع الإسرائيلية.
واقع جديد... أم مرحلة مؤقتة؟
الحكومة السورية المؤقتة لا تعكس صورة "وحدة وطنية" بقدر ما تمثل تقاطع مصالح بين قوى أمر واقع. توازن هش بين فاعلين مختلفين أيديولوجيًا وسياسيًا، تتعايش فيه أجندات متضاربة، مما يجعل من هذا الكيان الجديد كيانًا مؤقتًا بامتياز، مرهونًا بالظرف لا بالمؤسسة.
من أسقط الأسد؟
لم يُسقط نظام الأسد ثوار جدد، ولا قوى دولية كبرى منفردة، بل تحالف داخلي معقّد تلاقى مع رضا خارجي محسوب. هيئة تحرير الشام فرضت سيطرتها على الأرض، الإخوان المسلمون أعادوا إنتاج الخطاب، رموز من النظام حافظوا على مؤسسات الدولة، أما الدول الكبرى فقد راقبت وباركت التغيير بما يخدم مصالحها.
لكن الحقيقة المؤكدة: مستقبل سوريا لا يزال مفتوحًا على كل السيناريوهات – من الفدرلة، إلى الانفجار، أو تدوير جديد للوجوه والسلطات.
مرتبط